العالم العربي و عصر التصوير
إن غياب المسرح العربي مسألة معقدة تشبه إلى حد كبير مسألة غياب الملحمة في الصين. على الرغم من التأثير الكبير الذي مارسه التفكير الإغريقي على العالم العربي ظل المسرح غائبا ومغيبا. فوق ذلك كله, إن المسلمين هم أنفسهم الذين نقلوا الإرث الإغريقي في القرون الوسطى إلى أوروبا, وذلك بفضل ترجماتهم لأفلاطون وارسطو عن اللاتينية. ولكن كيف يحدث انهم لم يترجموا لا اسخيلوس, ولا سوفكليس ولا ويوربيديس أو أن يبتكروا شكلا مسرحيا خاصا بهم ? إن الحجة التي تحاول دائما أن تجيب عن حالة عدم الجود هذه هي حظر التصوير, والعرض التجسيدي, في الدين الإسلامي. وعند استماع ابن رشد, لأقاصيص أحد التجار العرب العائدين للتو من مدينة ؛كانتون« الواقعة بالصين, لم يصدق أو يأخذ بها مأخذ الجد. وقد زعم هذا التاجر انه شاهد عرضا فيه بعض الأشخاص, يضعون أقنعة على الوجوه أو ماكياجا, ويعبرون من خلال الإشارات الجسدية والإلقاء أمام جمهور في ديكور يجسد حادثة خيالية. لقد كان من غير المعقول بالنسبة لابن رشد الذي يعتبر واحدا من أكبر قراء ذلك العصر وأكبر المعلقين على الفلسفة الإغريقية و(خاصة أرسطو), بأن يكون هنالك أشخاص من الجنون والإلحاد بحيث ينافسون الرب, في خلق الصور.
التعزية والقرقوز
في الحقيقة, لا يوجد في الدين الإسلامي, تمثيل طقسي يمكن مقارنته بالاحتفالات الشعائرية الإغريقية القديمة أو القرون الوسطى الأوروبية, وكذلك إن المسرح لا يمكن أن يولد من الطقس فقط مثلما في أي مكان آخر. إن الشكل الإسلامي الوحيد, ولد في القرن السابع بإيران من قبل الشيعة, ولا يزال يقدم حتى اليوم, وهو التعزية, وهي طقوس مسرحية كانت ولازالت تمارس في البلاد العربية والإسلامية جمعاء تقريبا مثلما توجد في إيران بمثابة مسرح فعال للغاية, وهو المسرح الإسلامي الوحيد, ويسمى »التعزية«. إن هذا المسرح يتأسس على موت أوائل شهداء الإسلام ويمثل من قبل أ ناس القرية, لسكان القرية, في وقت محدد من أوقات السنة. لقد منع هذا المسرح من قبل شاه إيران مثلما منع في اغلب البلدان العربية ومن ضمنها العراق الذي هو مصدر التعزية ومكان واقعتها, بحجة أنها لا تتماشى مع لغة العصر وتصوره وفقا للأصول الغربية التي كان الشاه مولعا بها ومتمسكا بتلابيبها, ومع ذلك استمرت تمثل سرا في ثلاثمائة أو أربعمائة قرية في آن واحد, مثل قداس أو احتفال. كان العرض يجري ويمثل, بطريقة شعبية بسيطة جدا, وكان مؤثرا جدا, لان الجمهور كان يعيش حالة تكرار ؛العرض« بشكل حقيقي. انه كان ملما ببعض الأشياء التي وقعت منذ قرون والتي أصبحت بمجرد بفعل الإعادة حاضرة من جديد. إن فعل الاستشهاد, في هذا العرض, يقع أمام أعينهم من جديد وهم يبكون مثلما رأينا حديثا بكاء سكان أهالي بغداد بعد قصف طائرات التحالف. إن المسرح كان موجودا بين الناس أنفسهم وفي داخلهم, انه حاضر في شكل منمنم ومزخرف جدا, ولكن في مضمون واقعي تماما. لقد كان العرض واقعا, وحياة موازية. كانت حياة الماضي, حاضرة, هنا, متشاطرة من جديد مع جميع سكان القرية. لقد كان الناس يتأثرون بعمق عند المشاهدة, كانوا يعرفون المعنى الذي أعاد إحياء هذا العرض والذي بدونه كان سيتحول إلى عقيدة, وإيمان وفكرة مجردة. غير أن الأمر هنا يتعلق بحقيقة إيمانهم اكثر مما يتعلق بشيء آخر. أما فيما يتعلق بالمسرح الدنيوي, فلا يوجد إلا نموذج تعبيري واحد في العالم العربي, وهو القرقوز أو مسرح خيال الظل الذي اكتسب اسمه من شخصيته الرئيسية. إن هذا الشكل, الذي لا يلجأ إلى الممثل, قد ولد في مصر وتركيا في القرن الثامن.
لقد اعتبر دارسو الأدب المسرحي سنة 1849 بداية لتاريخ المسرح العربي وفاتحة عهد جديد بعدما كان المسرح من قبل مقتصرا على مظاهر وهيئات شبه مسرحية, مثل: التعزية, خيال الظل, فن الحكائين والحكواتية وأرباب المساخر وإلى آخره من المظاهر التي لم تأخذ شكل المسرح الأوروبي حتى مجيء عام 1849, الذي أسس فيه النقاش فرقته وقدم من خلالها مسرحية »البخيل« لـموليير بعدما ترجمها وأعدها.
مبدأ المتعة ومبدأ حقيقة الشيء
إن المسرح يوقظ واحدا من أشكال المتعة الأكثر قدما, والذي أكده فرويد في لعبة (fort-da) التي يقابلها باللغة العربية (البعيد-هاهو أو هاهي). إن الطفل يتمتع عندما يقوم بإخفاء حاجة وهو يصرخ عاليا (بعيد), ومن ثم يخرجها أو يعيدها للظهور صارخا (هاهي). إن هذه اللعبة تسمح بالسيطرة, من خلال تعاقب الحاضر/الغائب, على قلق الانفصال الذي يخلقه الابتعاد لحظويا عن الأم. إن هذا الإخراج ي حول الانزعاج إلى متعة. مثلما هو في المسرح, كل ما موجود هنا,- فوق خشبة المسرح- ما هو إلا عرض, وأن مصدر مبدأ المتعة يكمن في وظيفة السكوب, أي في عملية النظر فحسب. إن الطفل هنا, ممثل ومشاهد للعبه الخاص, في آن واحد. وإن سن البلوغ سوف لا يسمح له بأن يراكم هذين الدورين. إن الطفل يبدو غير راض ومنزعج عندما يلاحظ انتهاء اللعب, شأنه شأن المتفرج, الذي يحضر عرضا ويكون مندهشا من عملية اختفاء وظهور الممثلين, انه من غير شك, سيشعر بنوع من الحرمان حينما تنزل الستارة بشكل نهائي. إن هذا القطع سيكون بمثابة إعادة إلى ؛مبدأ حقيقة الشيء«, الذي كان طيلة فترة العرض خافتا, نائما لحساب »مبدأ المتعة«.
متعة البكاء
إن ما يبحث عنه المتفرج حينما يتردد على المسرح, هو الضحك والانفعال. إن الضحك عبارة عن لحظة ابتهاجية: إن الجمهور يسخر من الشخصية التي تجسد بنوع من الانتصار المتخيل, القوى الشريرة. أما المتعة التراجيدية, فهي اكثر تعقيدا. إن القديس أوغسطين, في الكتاب الثالث لاعترافاته, يندهش من شعوره بالمتعة أيام شباب, في عرض تراجيدي: »ولكن ما هو هذا الدافع الذي يجعل الأشخاص يركضون بهذا القدر من الحماس, يريدون أن يشعروا بالحزن بمشاهدتهم أشياء مأتمية وتراجيدية, ومع ذلك فهم لا يحبذون العذاب? ذلك لأن المشاهدين يودون الإحساس بالألم» وإن هذا الألم هو سعادتهم«. إنها »متعة الراحة بعد البكاء« التي تحدث عنها راسين في مسرحية »بيرنبيس«, التي هو ممتن منها كثيرا, وذلك لأنها »تراجيديا شرفتها الكثير من الدموع«, وهذا يبدو متناقضا. إن المتعة التراجيدية تراهن على ظاهرة التطهير. فنحن محتاجون جميعا, مثلما بينه أرسطو, للبرهنة على مشاعر وانفعالات قوية - خوف, شفقة ... - والتي تترافق, في الحياة, مع الاضطرابات والعذابات. بالمقابل, يشعر المتفرج عند مشاهدته التراجيديا بالانفعالات القوية دون أن يصيبه الوجع, وهكذا ينتزع المتعة, وذلك من خلال »التفريغ« عن أحزانه.