والسمات الرئيسة للتراجيديا اليونانية هي مجموعة من الخصائص الآتية:
أ. ليس من اللازم أن تنتهي التراجيديا اليونانية دائماً بموت الشخصية الرئيسة أو الممثل الأول، أما الموضوع فهو، كما أشار أرسطو دائماً، موضوع جدي له قدر وحجم.
ب. تستغرق الواحدة من التراجيديات اليونانية ما يزيد قليلاً على الساعة، فالأورستايا بمسرحياتها الثلاث تستغرق تقريباً الوقت نفسه الذي يستغرقه تمثيل مسرحيتي شكسبير: "هاملت" و"الملك لير". وقد تلقي هذه الحقيقة بعض الضوء على مشكلة الوحدات الكلاسيكية الثلاث التي طالما كانت موضوعا للمناقشة. فوحدة الزمن تستلزم أن تقع الأحداث في يوم واحد، ووحدة المكان تستلزم أن تنحصر الأحداث في مكان واحد، ووحدة الفعل تستلزم ألا يكون في المسرحية غير حبكة مسرحية واحدة.
ج. يتضح مباشرة، لمن يقرأ التراجيديات اليونانية، أن الجوقة تؤدي فيها دوراً كبيراً، وهي تنفرد بالكثير من أجود الشعر في التراجيديات اليونانية، بل سمح لها بالاشتراك في الفعل الدرامي، وتحمل مسؤولية التعبير عن الكثير من الأفكار والآراء.
د. قصد الأغريق بالتارجيديا أن تؤدي لهم دوراً خاصاً، هو تحقيق تطهير الروح عن طريق الشفقة والخوف، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأنه يفهم معنى هذا الكلام تماماً.
الكوميديا الإغريقية
أما الكوميديا الإغريقية فقد كانت لها وظيفتها الخاصة، حيث ارتبطت في أصلها بطقوس الخصب والتناسل البدائية، وهو ما يفسر لنا الكثير مما نجده فيها الآن ونعده خروجاً عن حدود الأدب والذوق، ولكن وظيفة الكوميديا قد تبدلت حين وصلت إلى أيدي أريستوفنس، فجعل منها سوطاً قوياً لمهاجمة الحماقات الاجتماعية والسياسية، و أصبحت لا تختلف كثيراً عن العروض الفكاهية الساخرة المعاصرة.
وإن لم يكن أريستوفنس 450 - 388 ق م، الكوميدي الوحيد في عصره إلا أنه كان، باتفاق الجميع، أعظمهم، وهو كذلك الوحيد الذي بقيت لنا من أعماله عدة مسرحيات في نصها الكامل، وكان يمتاز ببراعة مدهشة، وقدرة فائقة على الفكاهة والسخرية. إنه رجل لا يتردد في أن يسخر من كل شخص، ويتهكم على كل شيء. ومن عجب أن يكون ذلك الرجل محافظاً يجاهد في سبيل عودة الأيام القديمة، وعدواً لكل ما هو تقدمي أو جديد. واستمدت معظم مسرحياته مثل "الضفادع" و"الدبابير" و"السحب" أسماءها مما تمثله الجوقات فيها، وكان لها دور كبير فيما تقدمه المسرحيات من بهجة ومرح.
وقد سبق الزي المسرحي، في أثناء نمو الدراما، الديكور المسرحي، بل سبق كل مقر ثابت مخصص للتمثيل. وقد بقيت مثل هذه الأماكن الثابتة المخصصة للتمثيل، لأمد طويل، عائقاً أكثر منها معيناً لحل مشكلة الفن المسرحي كما عرفته الدراما الإغريقية. فبناء مثل مسرح ديونيز كان مصدر بلبلة للفكر المعاصر، إذ إن أطلاله الباقية لا تدل على مبنى يرجع إلى العصر الهليني فحسب، بل إلى العصر الروماني. والمتفق عليه نشأة كل من الملهاة والمأساة في المحافل القروية وفي المواكب الممجدة لديونيز الذي عُدّ في زمنه الإله الملهم وموفر الخصب.
إن أولى حفلات المآسي والملاهي قد مثلت في الأوركسترا Orchestra، وهي قطعة أرض ممهدة مستديرة الشكل، بميدان السوق، ومن ثم انتقلت بصفة دائمة إلى حيث حدود معبد ديونيز اليوثيروس، داخل الحرم المقدس، على المنحدر الجنوبي للأكروبول، على أنه لم تكن الأرض مسطحة، فكان لا بد من إقامة حائط ساند عند أحد الجوانب، وكان النظارة يتجمعون على سفح التل، وينظرون عبر الأوركسترا، فيرون فوق حافة الحائط الساند قمة معبد ديونيز.
لم تتضمن نظم البناء حتى القرن الخامس قبل الميلاد سوى الأوركسترا والمعبد، أي أن أولى مسرحيات أسخيلوس قد قدمت على هذه الصورة المبسطة، أما ما كان يلزمها من إكسسوار، كالهياكل والمقابر، فكان يعد عند حافة المسطح، حسب مقتضيات كل مسرحية.
ومن المفروض أن ممراً منحدراً، أو بالأحرى خندقاً، قد وفر طريقاً لظهور الجوقة والممثل الأول على مرأى من النظارة. وقد تسبب عدم الاستقرار في مفهوم الاصطلاحات المسرحية اليونانية في كثير من البلبلة لأذهان المعاصرين. كانت الأوركسترا مكاناً مسطحاً، مستديراً في الأصل، تؤدي فيه الجوقة تشكيلاتها، وكان المسرح مكان جلوس النظارة، وكانت الخيمة، حيث يرتدي الممثلون ملابسهم ومنها يظهرون كلما حل دور أحدهم، خليطاً يجمع بين كواليس المسرح الحديث وحجرات الممثلين، أي أنها لم تكن منصة التمثيل حسب المدلول الحديث.
أما ما يطلق عليه حالياً منصة التمثيل، أي خشبة المسرح، فكان اليونانيون يسمونها "بروسكنيون Proskenion".
حوالي عام 465 ق م أقيمت أول منصة خشبية صغيرة في استطاعة النظارة أن يروها، وبعد أربعين عاما، أقيم أساس حجري متين لمبني منصة حجرية ذات جبهة طويلة وجناحين متفرعين.
ولم تشيد في أثينا منصة حجرية كاملة قبل العصر الهليني. وأما آثار المنصة المحكمة المتقدمة جداً، التي ما زالت باقية، فيرجع تاريخها إلى ما لا يقل عن عهد نيرون. وينتهي الكثير من العلماء إلى أن جدار الحرم الذي كان يقوم مقام مؤخرة "للمنظر المسرحي"، إن جاز التعبير، يرجع إلى عهود لاحقة في تاريخ المسرح، قد استعمل مبكراً، منذ مطلع القرن الخامس، مؤخرة لمنصة خشبية، ثم في نهاية القرن، مؤخرة لمنصة حجرية.
ومن غير المستبعد أن المنصة الخشبية كانت تتخذ أولاً فأول، ما يتفق من الأشكال ومختلف مقتضيات المسرحية، بل قد مرت المنصة الحجرية نفسها بأطوار مختلفة. وفي متحف اللوفر Louvre بباريس آنية أولت على أنها توفر أصدق صورة لأول منصة حجرية في أثينا.
كانت الأشباح المقدسة تستحضر من خلال نفق مصبه المنصة، ولمثل هذا الممر اكتشفت آثار بمسرح إريتريا، عرفت باسم "السلم الشاروني"، وفي الأغلب أنه استعمل مبكراً منذ عهد أسخيلوس الذي عمرت تمثيلياته بالأطياف. كذلك ليس من شك في أن المسرح الإغريقي عرف الدور الأعلى، حيث قام بوظيفته المسرحية نفسها عند شكسبير، وهي إلقاء الخطب من شرفة، أو من أعلى جدار، أو من برج مراقبة.
فيما بين عهدي أسخيلوس ويوربيدس كان المسرح الإغريقي قد وفق إلى شتى اصطلاحاته، سواء الخاصة بالجدار الخلفي نفسه أو بمختلف ملحقاته الثانوية، وبدا الطريق ممهداً أمام تطور بلغ ذروته في الأزمنة الرومانية حيث المسارح المحكمة والإخراج المتقدم.
ولا يرجع إلى أسخيلوس فضل التقدم الأول الحقيقي من حيث المناظر المسرحية وآليتها فحسب، بل هو أول من أدخل على المسرح الزي المعين لكل ممثل أيضاً، أو بالأحرى هو الذي قد قرر في وضوح ما كان مستعملاً من قبل زياً في عبادات ديونيز، فالقناع أو الثوب ذو الكمين أو الحذاء العالي مستعار من ديانة ديونيز وشعائره.
وقد تأثر الزي في المسرح الإغريقي، في طابعه الديني وطابعه غير المألوف. والمسرح، عبر تاريخه، كان مجذوباً نحو الزي الغريب، الذي يساعد بحكم طبيعته الخاصة على نقل المتفرج من عالمه إلى عالم أخر مثالي. وثمة تفسير آخر هو أن الزي الذي يغطي جسم الممثل من أخمص القدمين إلى الرأس، حتى لا يعرفه أحد، كان يجبر الممثل على أن يتخلى عن شخصيته، في سبيل تمثيله خصائص حياة أرقى.
المسرح والمجتمع
إن المسرح في كل المجتمعات, كان عبارة عن مكان كبير للتجمهر الذي يأخذ على عاتقه, في ذات الوقت, مظاهر الطقس والاحتفال. وقد خصص للجمهور فيه مكان اختلف وتغيرت مواضعه وفقا لتوالي العصور والحقب. وهذا ما سجلته معمارية المسرح نفسها التي أخذت هي الأخرى, على مر العصور أشكالا وأبعادا مختلفة ومتعددة. إن الأحداث المعروضة من قبل الممثلين سواء بطريقة منمقة أو واقعية, وفقا لما نريد أو نحاول الإقناع به من خلال صدق الخيال, تنظم في جملتها عرضا من الوجود الإنساني الذي يسمح لكل واحد لأن يسائل صورته الخاصة, وتجعله يفكر من خلال هذه المرآة العاكسة.
إن المسرح سواء في الشرق أو الغرب قد ولد في أحضان الشعائر الدينية, التي انفصل عنها ببطء, مثلما انفصل أو بالأحرى تخلص من هول سرد النصوص الدرامية المؤسسة للمسرح, الملحمية منها والدينية. وقد ن قل المسرح أيضا من خلال أشكال الأساطير, والتاريخ الجمعي والذي يلقي لنا الضوء على صورة مجتمع يطور نفسه بنفسه. إن المسرح ذاكرة الشعب السياسية. وذلك لأنه عبارة عن تظاهرة لفرق اجتماعية, فهو يستعير طرق تعبيره من الاحتفالات الكبيرة, الدينية والمدنية, التي تمارس وتجتمع داخل المدينة. إن مرجعية الفن الدرامي, في الأصل, تعود بشكل تلقائي إلى الغناء والموسيقى والرقص.